recent
أخبار ساخنة

يوميات أستاذ في القرية

الصفحة الرئيسية
يوميات أستاذ في الأرياف | نص أدبي مؤثر

يوميات أستاذ في الأرياف 


ها هو يعود إلى فصله، يدخل إليه بخطواتٍ تزيدها الأيام والسنوات ثقلاً، لكنها خطواتٌ تُحمل في طياتها ما يفوق عقدين من الزمان قضاها بين هذه الجدران. يتوقف لحظة عند المدخل، وتتجه عيناه ليطالعا جدرانه المهترئة التي تبدو وكأنها فقدت لونها الأصلي منذ زمنٍ بعيد، شاحبةً، تتآكل أطرافها وتتقشر طبقات طلائها الرقيقة، لتكشف عن بقعٍ داكنة وبنية اللون كعلاماتٍ بارزة لمرور الزمن وعوامل الطقس القاسية. كل صدعٍ صغير، كل بقعةٍ من الرطوبة تركت أثرها، تحكي عن إهمالٍ طويل وعن صمودٍ مرير لهذه الجدران أمام قسوة الظروف.

يوميات أستاذ في القرية


ينتقل بصره إلى ذاك الزجاج المكسور في تلك النافذة، هي ليست مجرد نافذة، بل هي ثقبٌ كبير في جسد الغرفة، شقٌ غائرٌ يسمح للهواء البارد بالانسياب في أيام الشتاء، ولغبار الأرياف بالدخول بلا دعوة. الزجاج المتكسر تتناثر شظاياه، بعضها ما يزال عالقاً في الإطار الخشبي البالي، وبعضها الآخر سقط على حافة النافذة، وكأنه يصرخ بصمت عن هشاشة المكان. هذه النافذة تحديداً تطل مباشرةً على ساحة المدرسة الواسعة التي تبدو اليوم خالية، صامتة، لكنها تحمل في طياتها ذاكرةً حية لضجيجٍ وصخبٍ لا ينتهي، لخطوات أقدام صغيرة، ولصيحاتٍ مرتفعة كانت تملأ الفضاء ذات صباحاتٍ بعيدة. كانت هذه النافذة شاهداً على كل ما يدور في الساحة، من ألعابٍ بريئة إلى عراكٍ عابر، ومن اصطفافٍ صباحي إلى تفرقٍ عند نهاية اليوم.
 
ثم تقع عيناه على تلك الستائر التي لم يبق منها سوى ستارٍ وحيد؛ قطعةٌ قماشيةٌ بالية، تتشابك خيوطها المنسدلة، ويظهر عليها بوضوحٍ بهتانُ الألوان بفعل أشعة الشمس المتكررة والغبار المتراكم. هذا الستار الممزق، الذي بالكاد يستر جزءاً بسيطاً من النافذة، يتدلى بحزنٍ، وكأنه آخر شاهدٍ على ماضٍ كانت فيه هذه النوافذ مغطاةً بستائر كاملة وربما زاهية الألوان، قبل أن ينهشها الزمن وتتساقط الواحدة تلو الأخرى، ليظل هو وحيداً، يتمايل مع كل نسمة هواءٍ خفيفة تدخل من الشقوق، كأنها روحٌ متعبةٌ تتأرجح في سكونٍ تام.



يقف الأستاذ متأملاً، وكأنه شاهدٌ على وجودها في يومٍ من الأيام؛ وجودٍ لا يقتصر على مجرد جدرانٍ وأثاث، بل على حياةٍ كانت تنبض هنا بكل ما فيها من تفاصيل. تتجه عيناه إلى تلك السبورة الباهتة، قطعةٌ كبيرةٌ من الخشب أو المعدن، لكنها فقدت بريقها الأسود تماماً، وباتت مائلةً إلى اللون الرمادي الغامق بسبب تراكم طبقاتٍ لا تُحصى من طباشيرٍ جافةٍ وممحاةٍ بالية. آثار الكتابة القديمة، سواء كانت كلماتٍ أو رسوماتٍ باهتة، ما تزال عالقةً عليها بصعوبة، كأنها أشباحُ حروفٍ ورموزٍ رفضت أن تمحى تماماً من ذاكرة المكان.

ثم ينظر إلى ذاك المكتب المتهالك، إنه ليس مجرد مكتبٍ، بل هو قطعةٌ خشبيةٌ عتيقة، كبيرة الحجم، تظهر على سطحها العلوي الكثير من الخدوش العميقة والبقع المتناثرة، وكأنها خرائطُ لسنواتٍ طويلة من الاستخدام المتواصل. الخشب نفسه أصبح داكناً، وكأنه تشبع بعبق السنين وذكرياتها، يفوح منه عبق السنين الذي يختلط برائحة الغبار القديم ورائحة الورق البالي. هذا المكتب، بكل تراكيبه المتداعية وزواياه المتقشرة، يشهد على تاريخٍ طويل؛ تاريخٍ من الأجيال التي مرت من هنا، من المدرسين الذين انحنوا فوقه يصححون الواجبات، ويخططون الدروس، ويكتبون السجلات. إنه يحكي حكايات أجيالٍ وأجيال من المدرسين، كل منهم ترك بصمته الخاصة، بعضها واضحٌ كأثر حبرٍ جافٍ، وبعضها خفيٌ كهمسةٍ في الهواء.

أما ذاك الكرسي فلم يبق منه سوى هيكله الحديدي؛ قطعةٌ صدئةٌ من المعدن، ملتويةٌ قليلاً، فقدت جميع أجزائها الخشبية أو القماشية التي كانت تشكل المقعد والمسند. إنه يقف وحيداً، كشبحٍ لكرسيٍ كان يُستخدم، صامتاً، لكنه يصرخ بما تعرض له من تهالكٍ ونسيان. يبدو كأنه نصبٌ تذكاريٌ لراحةٍ ضاعت، ولأجسادٍ جلست فوقه لساعاتٍ طويلة، تاركةً وراءها بصماتٍ من التعب والإرهاق.



عند باب المدرسة، الخشبي الكبير الذي تبدو عليه آثار التشققات، يقف مع التلاميذ الذين بدأوا بالتجمع في الخارج، يتراصون في مجموعاتٍ صغيرة، تملأ أصواتهم الحيوية المكان. ينتظرون جميعاً، الكبار منهم والصغار، الباب إلى أن يفتح، هذه اللحظة اليومية التي تحمل في طياتها بداية يومٍ جديد. يقف الأستاذ بينهم، يحاول أن يظل ثابتاً، يقف ويقف، ومرور الوقت يزيد من إحساسه بالإرهاق، تشعر ساقاه بالتعب، ويثقل جسده الذي بات اعتاد على الوقوف لساعاتٍ طويلة.

فيعييه الوقوف، يشعر بالتعب يتسرب إلى عضلاته المتعبة، فيجد نفسه يبحث عن أي مكانٍ للراحة. فيقتعد الرصيف الإسمنتي البارد، يجلس بهدوءٍ، ويضع حقيبته المدرسية القديمة، التي تبدو عليها علامات الاستخدام الطويل، إلى جانبه. هي حقيبةٌ جلديةٌ داكنة اللون، تحمل في طياتها ثقل الكتب والأوراق، وكأنها جزءٌ لا يتجزأ من حياته.

يجلس الأستاذ، يستريح قليلاً، يتأمل ما حوله، يرفع رأسه نحو الأفق البعيد، فإذا بجبلٍ شامخٍ يتراءى له، ضخمٌ، مهيبٌ، يمتد بسلسلةٍ طويلةٍ من التلال، ويغطيه الغطاء النباتي الأخضر الداكن الذي يتغير لونه بتبدل الفصول. قمة الجبل تختفي أحياناً خلف الغيوم، وتظهر أحياناً أخرى بوضوحٍ، كأنها نقطةٌ ثابتةٌ في عالمٍ متغير. هذا الجبل يقف كحارسٍ أمينٍ للقرية، رمزاً للعراقة والثبات. أما السماء فتبدو زرقاء صافية بشكلٍ يثير الدهشة، لا تشوبها غيمةٌ واحدة، لونها عميقٌ وواسعٌ، يوحي بالهدوء اللامتناهي. نقاء هذا اللون يجعلها تبدو كأنه يومٌ من أيام الصيف الدافئة والمنعشة، تبعث في النفس شعوراً بالاتساع والحرية.



هو أيضًا، الأستاذ، تغير تغير من الداخل والخارج؛ لم يعد هو نفس الرجل الذي جاء إلى هنا قبل سنواتٍ عديدة. تجاعيد صغيرة بدأت تظهر حول عينيه، وشعره بدأ يغزو الشيب أطرافه. لكن التغيير الأعمق كان من الداخل؛ فقد تغيرت فيه أشياء كثيرة، طريقة نظرته للأمور، أولوياته، وحتى ردود فعله. لقد ماتت بداخله أشياء؛ ربما بعض الأحلام الوردية التي لم تتحقق، بعض المثالية التي صدمت بواقعٍ قاسٍ، وربما بعض العجلة التي استبدلها بالصبر. لكن في المقابل، كما ولدت أخرى؛ كالحكمة التي اكتسبها من تجاربه، والقدرة على التكيف مع الصعاب، وربما حباً أعمق وأكثر واقعية لهذه الأرض ولهؤلاء الأطفال الذين يمرون من بين يديه عاماً بعد عام. بات يرى الجمال في التفاصيل الصغيرة، في ابتسامة طفل، أو في شعاع شمس يتسلل من النافذة المكسورة.


مرت لحظاتٌ صمتٍ وترقبٍ أخرى. عاد لدق الباب، هذه المرة لم يكن دقاً يائساً، بل كان طرقاً هادئاً، يحمل في طياته إيقاعاً روتينياً، إيقاعاً يومياً متكرراً. وهذه المرة، لكنه فتح في وجهه، لم يعد هناك انتظارٌ طويل، ولا صمتٌ محبط. انفتح الباب على مصراعيه، ليكشف عن دهليزٍ مظلمٍ قليلاً يؤدي إلى فصول المدرسة. ولج الحجرة، خطى خطواتٍ ثابتةً داخل الفصل، إلى عالمه الصغير الذي يقضي فيه جل وقته، عالمٌ ينتظره ليبدأ فيه الروتين اليومي الذي يعرف تفاصيله عن ظهر قلب، من التحية الصباحية إلى شرح الدروس، ومن تصحيح الواجبات إلى الإجابة على أسئلة الأطفال الفضولية.




خارج القسم، يبدأ الاصطفاف الذي يبدأ من خارج المدرسة إلى حدود باب القسم. يصطف الأطفال في طوابير غير منتظمة تماماً، أجسادهم الصغيرة تتحرك بنشاط، ووجوههم تملأها تعابير مختلفة بين النعاس والنشاط والحماس. ومع هذا الاصطفاف، ومعه يبدأ ضجيج الأطفال وصراخهم الذي يملأ المكان، أصواتٌ تتداخل وتتضارب، صرخاتٌ صغيرةٌ تدل على حماسٍ مفرط أو شجارٍ عابر. وأصواتهم العالية تتردد في فضاء المدرسة، تتنافس في الوصول إلى أذن الأستاذ، وعراكهم أيضاً الذي يكون غالباً مجرد دفعاتٍ خفيفة أو منافساتٍ بريئة على المكان، يضفي على المشهد حيويةً وفوضى محببة.

وإذا دخلوا القسم رافقتهم تلك الفوضى، يدخلون مسرعين، تدفعهم الحيوية الطاغية، يتبعثرون في طريقهم إلى مقاعدهم، أصوات سحب الكراسي والتحركات السريعة تملأ الغرفة. ثم، شيئاً فشيئاً، هدؤوا رويداً رويداً، وكأن سحراً ما يلف المكان مع جلوس كل طفل في مكانه، ومع نظرات الأستاذ الهادئة التي توزعها عليهم. تسكت الهمهمات، وتهدأ الحركات، ويتحول الضجيج إلى صمتٍ نسبيٍ، يتخلله أحياناً بعض السعال أو الحركات البسيطة. ولكنهم لا يلبثون على تلك الحال طويلاً؛ فسرعان ما تعود الحيوية لتتسلل إلى أجسادهم الصغيرة، وتظهر على وجوههم ملامح جيلٍ مختلفٍ عن الأجيال السابقة، فهذا جيلٌ مختلف. جيلٌ لا يطيق الصمت طويلاً، يحب الحركة، يطرح الأسئلة بجرأةٍ، ولديه طاقةٌ لا متناهية. إنه جيلٌ يتطلب أسلوباً مختلفاً في التعامل، ويحتضن تحدياتٍ جديدة للأستاذ الذي يقف بينهم، يبذل جهده، ويستمر في غرس بذور المعرفة، أملًا في أن تزهر في هذه التربة الخصبة.
google-playkhamsatmostaqltradent