recent
أخبار ساخنة

البحث عن الذات

الصفحة الرئيسية
عنوان الصفحة

رحلة البحث عن الذات: أغوار النفس التائهة


في زاوية مظلمة من زوايا الروح، حيث تتراقص هواجس النفس وتتشابك خيوط الكوابيس، سجنت نفسي طوعاً. لم يكن سجناً من قضبان وسلاسل، بل كان سجناً أشد وطأةً، بنتهُ أفكاري المشتتة..

البحث عن الذات


حاصرتني هذه الهواجس كشبكة عنكبوتية كثيفة، تتوسع مع كل نبضة قلب، وتضيق مع كل شهيق وزفير. 

صرختُ بلا صوت، صرخةٌ كادت تمزق صدري، لكنها لم تجد طريقاً إلى الخارج. بقيت حبيسة جدران روحي، تردد صداها داخلي كشبحٍ لا يستطيع العبور.

ضجيج الأفكار بداخلي، يا له من ضجيج! إنه وادٍ سحيق، بلا شاطئ يرسو عليه الفكر، ولا أفق يلوح في نهايته بارقة أمل. 

أفكار متلاطمة، متدفقة، لا تعرف التوقف. تارةً تحملني إلى الماضي بأحزانه، وتارةً تدفعني نحو المستقبل بمخاوفه. 

كلماتي، التي هي نافذة الروح، أصبحت بلا صوت أيضاً، مجرد همسات خافتة تتلاشى قبل أن تُسمع، أو ربما لا تُسمع إلا لي وحدي، وكأنها لغة سرية بيني وبين ذاتي المعذبة. 

هذا الصمت الصارخ، وهذا الضجيج الصامت، يشكلان تناقضاً غريباً يمزق كياني، ويجعلاني أعيش في عالمي الخاص، معزولة عن العالم الخارجي، وعن حقيقة من أكون.


في دروب الضياع: أمنيات الطفولة ومرارة الاكتشاف


كم تمنيت، ويا لها من أمنيات، أن أعثر على نفسي الضائعة. كانت أمنية ملحة، كظمأٍ في صحراء قاحلة. 

كنت أطمح أن أعود إلى طفولتي، تلك المرحلة النقية، البكر، التي يصفها الجميع بالبراءة والسعادة. 

ولكن أدركتُ، ويا لمرارة الإدراك، أنها طفولة لم أعشها كباقي الصغار. لم تكن طفولتي مرسومة بألوان الفرح الصارخة، ولا مفعمة بضحكات تملأ الأرجاء. كانت محاطة بظلالٍ، وبمواقف صنعت مني شخصاً يختلف عن أقرانه، شخصاً يحمل في جعبته من الهموم ما يفوق سنه بكثير. لم أمتلك رفاهية اللهو بلا هم، ولا براءة التفكير بالمستقبل دون أعباء. 

كانت طفولتي بداية مبكرة لرحلة البحث الشاقة هذه، رحلة لم أكن أدرك في حينها أنها بدأت.

كم تمنيت أن أجد مكاناً قصياً، منزوياً، أستطيع فيه أن أصرخ بكل جوارحي، أن أفرغ كل ما بداخلي من تراكمات وألم. صرخة مدوية لا يحدها جدار، ولا يكتمها صوت، صرخةٌ تخرج من أعماق الروح لتلامس السماء. 

كم تمنيتُ وتمنيتُ، أمنيات تملأ فضاء روحي، وتتراقص في خيالي. كانت هذه الأماني كنجومٍ تضيء ليلي المظلم، تدفعني للأمام في رحلة البحث.

وعندما ظننتُ أنني اقتربتُ من حلمي، من تلك النقطة التي سأعثر فيها على ذاتي، عندما شعرتُ أنني على وشك الوصول إلى الملاذ الآمن، إلى الشاطئ الذي سأرسو عليه بعد رحلة طويلة من الضياع، اكتشفتُ بصدمة أن ذلك الحلم بدأ يتبدد ويتلاشى أمام عيني. وكأنني وصلت إليه متأخرة جداً، بعد أن فقد بريقه، وتلاشت ألوانه. 

شعرتُ كمن يركض خلف سراب في صحراء، وعندما يظن أنه وصل إلى الماء، يكتشف أنه لا شيء سوى وهج الشمس على الرمال. هذا الإحساس بالوصول المتأخر، بالخسارة بعد الاقتراب، ترك في نفسي أثراً عميقاً من اليأس والحسرة.


صراع الأنا: التمرد على الذات القديمة


في عمق هذا التيه، أجد نفسي أمام صراع داخلي عنيف. أريد أن أتمرد على نفسي، على تلك "الأنا" التي تشكلت عبر السنين، والتي أحملها داخلي كعبء ثقيل. أريد أن أعارضها بكل قوة، أن أقول لها "لا" لكل ما اعتادت عليه، لكل قناعاتها الراسخة، لكل طرقها القديمة في التفكير والشعور. 

لم أعد أطيق أن أكون إنسان الأمس، ذلك الشخص الذي تشكلت ملامحه بفعل الظروف والتجارب، والذي حمل في طياته الكثير من الخوف والتردد والخضوع. أرغب في التخلص من قيود الماضي، وأن أتحرر من إرث الذات القديمة.

ألا أكون أنا، تلك النفس التي ظننتها "أنا"، تلك الهوية التي التصقت بي لفترة طويلة. لكنني في لحظة من لحظات الوضوح المؤلمة، أدركتُ أنها لم تكن كذلك على الإطلاق. لم تكن تعبر عن جوهري الحقيقي، عن روحي العميقة، بل كانت مجرد قناع، أو ربما سجن آخر بنيته لنفسي دون وعي. 


هذا الإدراك بوجود هوية زائفة، بهوية اعتقدتُ أنها تمثلني ولكنها في الحقيقة كانت تحجبني عن ذاتي الأصيلة، كان صادماً بقدر ما كان محفزاً للتمرد.


تحولات النفس: الاختناق وروح الاختلاف


هذا الصراع الداخلي، وهذا الإدراك المتأخر، يخلقان لدي شعوراً بالاختناق. أتنفس بصعوبة بالغة، وكأن الهواء لا يصل إلى رئتي كاملاً، أو كأن هناك شيئاً يضغط على صدري، يمنعني من استنشاق الحياة بحرية. إنه ليس اختناقاً جسدياً بالمعنى التقليدي، بل هو اختناق روحي، شعور بأن روحي مكبلة، غير قادرة على الانطلاق والتحليق. كل نفس أشهقه، يبدو وكأنه نضال في حد ذاته، صراع للبقاء على قيد الحياة، ليس جسدياً، بل نفسياً وروحياً.

أحس أني تغيرت، تغيرت كثيراً، لدرجة أنني أحياناً لا أتعرف على نفسي في المرآة. ليست الملامح هي التي تغيرت، بل الروح التي تسكن هذه الملامح. 

أصبحتُ شخصاً آخر، يحمل هموماً وأفكاراً وتجارب جديدة، أو ربما القديمة أصبحت تُرى بعين مختلفة. 

لن أبالغ فأقول أني لم أعد "أنا" بالكامل، لكنني بالتأكيد لم أعد "أنا" التي كنتها بالأمس القريب. فقط أصبحتُ مختلفة، وهذه الكلمة تحمل في طياتها الكثير من المعاني والأبعاد.

هذا الاختلاف ليس وليد اللحظة، فلطالما كنتُ مختلفة، أو هكذا أرى نفسي، وهكذا يراني الآخرون من حولي. 

لطالما شعرتُ بأنني لا أنتمي بشكل كامل لأي قالب، وأن أفكاري وشعوري يسبحان في بحرٍ خاص بي. 

هذا الاختلاف، الذي كان في السابق مصدراً لبعض العزلة أو سوء الفهم، أصبح الآن جزءاً لا يتجزأ من هويتي المتجددة. 


ربما كان هذا الاختلاف هو الشرارة التي دفعتني في المقام الأول للبحث عن ذاتي، لإعادة تعريف من أكون، بعيداً عن القوالب والتوقعات. 

إنها رحلة مستمرة، رحلة شاقة ولكنها ضرورية، نحو فهم أعمق للذات، ونحو التحرر من الأوهام والقيود التي صنعناها لأنفسنا.
google-playkhamsatmostaqltradent