أختي الصغيرة
بينما كنت مستلقية على سريري في صباح يوم صيفي حار، يتسلل منه ضوء الشمس الذهبي عبر نافذة غرفتي في بيتنا العامر بمدينة طنجة، قُرع الباب بقطعة خشب صغيرة، ليس الطرق المعتاد، بل ضربة مفاجئة. لا أخفيكم الأمر، شعرت بخضة.
رفعت رأسي لأرى مصدر الضجة، فإذا بها أختي الصغيرة، سندس، تقف عند العتبة. كانت عيناها تلمعان ببريق اللعب، وفي يدها هاتف أمي الذي حملت عليه بعض الألعاب الجديدة. اعتادت سندس على هذه الزيارات الصباحية، فهي تحب أن تشاركني أوقات فراغها، وإن كانت المشاركة تعني في الغالب أنه علي مراقبتها تلعب، وبين الفينة والأخرى كانت تسمح لي ببعض الدقائق القليلة.
في ذلك اليوم، وبينما كانت سندس منهمكة في إحدى ألعابها الصاخبة، شعرت برغبة عارمة في التعبير عن استيائي من سلوكها . فأردت أن ألقنها درساً خفيفاً فانتحلتُ نبرة جادة وقلت لها بتمثيلية بارعة: "سندس، لقد اتخذتُ قراراً مهماً. سوف أغادر البيت وأعيش لوحدي في مكان بعيد جداً من أجل ظروف🎭 العمل"
توقفت سندس عن اللعب على الفور، ورفعت رأسها الصغير، ونظرت إلي بعينيها الواسعتين اللتين امتلأتا بالدهشة. سألتني بلهجة لا تخلو من القلق: "سوف تذهبين مع طلوع الفجر؟" أجبتها، محافظاً على نبرتي الدرامية: "نعم، سأغادر مع بزوغ أول خيط للفجر، لأصل قبل أن يخيم الظلام في المكان الذي اخترته."
كانت ردة فعلها سريعة ومدهشة. أجابتني بسرعة شديدة، وكأن الفكرة لم تحتج منها أي تفكير: "سأذهب معك!"
عقبتُ مستغربة من سرعة قرارها وغيرتها الواضحة: "وماذا عن أبيك وأمك؟ هل ستعيشين بعيدة عنهما؟ وماذا عن التعليم؟ فالمكان الذي سأسكن فيه عبارة عن قرية نائية، لا توجد بها مدارس قريبة." حينها، ردت دونما تفكير أو تردد: "ستعلمينني أنت!"
ابتسمتُ في داخلي لبرائتها وعفويتها، وقررت أن أواصل اللعبة لأرى إلى أي مدى ستذهب سندس في هذا الخيال. قلت لها: "نعم، سوف أخصص لك حصتين تعليميتين يومياً؛ الحصة الصباحية ستبدأ من الساعة العاشرة صباحاً حتى الثانية عشرة ظهراً، والثانية من الرابعة إلى السادسة مساءً. ولكن، يجب أن تعلمي أنه لن يكون هناك وجود للاستراحة بين الحصص، أو حتى وقت للعب خلال النهار."
حينها، قالت مستغربة، وقد بدأت ملامح الدهشة تظهر على وجهها الطفولي: "لماذا؟ في روضتنا يسمح لنا باستراحة!"
أجبتها بجدية مصطنعة: "لأن مدة الحصة ساعتان فقط، والوقت ثمين. سوف نخصص الحصة الصباحية للقرآن الكريم والقراءة والكتابة، والحصة المسائية سوف نخصصها للرسم والأناشيد. ولن أسمح لك باللعب على الهاتف إلا ساعة واحدة فقط أثناء الليل."
ظهرت علامات التساؤل والتردد على وجه سندس. لم تكن هذه الخطة التعليمية الصارمة تتناسب مع روتينها المعتاد المليء باللعب واللهو.
نظرت إليّ بعينيها الكبيرتين، وسألتني بلهجة يملؤها الاستياء: "لماذا ساعة واحدة فقط؟ ولماذا لا توجد استراحة؟ هذا ليس عدلاً!". بدأت ملامح الندم تتسرب إلى تعابيرها، فقد كانت تتوقع مغامرة خالية من القيود، لا مدرسة منزلية صارمة.
أدركتُ أنني وصلت إلى غايتي. لقد أدركت سندس أن الحياة ليست كلها لعباً، وأن الابتعاد عن البيت والعائلة له بثمن. ابتسمتُ لها بحنان، وقررت أن أنهي هذا الدرس بطريقة لطيفة. أجبتها بهدوء، محاولة أن أطرد من قلبها أي شعور بالقلق: "لأنه مضر بصحة عينيك يا حبيبتي. اللعب على الهاتف لساعات طويلة يؤذي بصرك الصغير. لكن لا تقلقي، لن تكوني وحيدة أبداً، وسوف نشاهد التلفزيون سوياً في المساء، ويمكننا أن نشاهد المسلسلات الكرتونية التي تحبينها أو برامج تعليمية ممتعة على القنوات التي اعتدت عليها."
في صباح يوم الرحيل، مع بزوغ الفجر، كانت الأجواء في المنزل ثقيلة. أمي كانت تحتضنني بقوة، وعينا أبي تحملان مزيجاً من الفخر والألم. أما سندس، فكانت تقف في زاوية الغرفة، وعيناها مثبتتان عليّ. عندما حانت لحظة الوداع، وقبلتُ جبينها الصغير، انهمرت دموعها كالمطر. لم تستطع النطق بكلمة واحدة، فقط شهقات متقطعة ودموع غزيرة غطت وجنتيها. احتضنتها بقوة، وهمست لها بأنني سأعود في كل عطلة، وأننا سنتحدث كل يوم.
صعدتُ السيارة وقلبي يعتصر. نظرتُ إلى سندس من النافذة وهي تركض خلف السيارة لبضع خطوات، ذراعاها الصغيرتان مرفوعتان، ووجهها غارق في الدموع. كان المشهد يمزق الروح. طوال الطريق، لم أستطع أن أوقف صور دموعها وهي تتكرر أمامي. شعرت بالذنب، لكنني كنت أعرف أن هذه الخطوة ضرورية لمستقبلي.